هــل تســمع حقــاً ؟
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون (20) ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون (21) إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون (22) ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23) (الأنفال).
كثيرة هي مشاغل الحياة، ومتتالية هي صروف الزمان، أحداث تتلوها أحداث، وخطوب تتبعها خطوب، والإنسان هو الإنسان تغرّه الدنيا، وقد علم دنوها، ويلهو عن الآخرة وقد أيقن ببقائها، صبره على الطاعة قليل، وتطلعه إلى الهوى كثير، يكابد الحياة بمرها وحلوها، ويغفل عن أسمى غاية خلق من أجلها، وربّه ينبهه إلى ساحلها فيقول سبحانه: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون 56 (الذاريات).
يقول الرسول ص: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أُعطي رضي، وإن لم يعطَ سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" رواه البخاري.
إن عبادة الدرهم والدينار والخميصة والقطيفة، ليست ناتجـة من عقل صحيح، ولا من قلب سليم، بل من غفلة، حتى غدا الإنسان في زماننا يتخبط في مكابدته لهذه الحياة، يتجاهل أنه خلق من أجل غاية، وغاية واحدة فقط هي عبادة الله وحده لا شريك له.
وهل أحد منَّا يعبد غير الله؟ سؤال مفترض أن يطرح، وإن لم تتفوه به الألسنة!!
ماذا فهمنا من معنى العبادة؟ أهي مسمى الإيمان؟ أم هي رسم الإسلام؟ أم هي أن يفعل المسلم ما يحلو له من العبادات ويترك ما يخالف هواه منها؟ فيصلي وينظر إلى الحرام، ويصوم ويفطر على الحرام، ويتصدق ولكن من الربا، ويتزوج ويزني، ويصلي العشاء في وقتها ويصلي الفجر في رائعة النهار، ويقوم بحقوق زوجته وذريته ويعق والديه، ويقرأ القرآن ويسمع الغناء، ألا ترى أنها صفة من صفات بني إسرائيل حينما أنكر الله عليهم ذلك فقال: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى" أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون 85 (البقرة).
أما أنت أخي الحبيب: فقد كُرمت بعبادة ربك، فارع حقوقه كلها ما استطعت إليه سبيلاً، وفضلت برسالة نبيك محمد ص فأد أوامره حتى تعجز، فإذا عجزت عُذرت، فلا وربك لا يؤمنون حتى" يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما 65 (النساء).
فهل أخضعت قلبك وعقلك لخالقك، فلم تجعل لنفسك رأياً بعد رأي الله، ولا قضاءً بعد قضائه، ولم تجد في صدرك كراهية لما شرع، وسلّمت بعد ذلك تسليماً.
نعم إننا نسمع الموعظة، ونحضر الجمع، ونصلي مع الجماعات، ونتلو القرآن، وننصت للحديث، لكن ما حظ جوارحنا من العمل بما سمعته آذاننا، وامتلأت به قلوبنا؟ إنني أعلم وتعلم ـ أخي القارئ ـ أن النصيحة فيها ثقل على النفوس، إلا على نفوس تربت على محبة الله ورسوله ص، وحرصت على النجاة بأنفسها وأهليها، في يوم عظيم الكروب، جسيم الخطوب.
لكن ما فائدة السماع إن لم تصحبه الطاعة، وسائل نفسك من الذي سمع فعصى؟
إنه أفجر مخلوق عرفته البشرية منذ أن خلقها الله: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى" واستكبر وكان من الكافرين 34 (البقرة)، فهل تعتقد أن إبليس لعنه الله لم يسمع أمر ربه؟ بل سمع فأبى أن يكون من الساجدين.
أتعلم من الذي سمع ولم يطع؟ إنهم بنو إسرائيل، اسمع كيف خلّد الله معصيتهم له بقوله: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين 93(البقرة)، لقد كانوا يسمعون نداء الرحمن، ويدّعون الإيمان به، ولكن بئس السماع سماع لا يحيي في القلب طاعة، ولا يثمر في النفس استجابة.
أقوام عاشت على هذه الأرض، فأرسل الله لها من يرشدها إليه، فأبت إلا الطغيان والفساد، ولم ترض إلا بالرذيلة والفاحشة لباساً، ولم ترغب إلا بالكفر وصفاً وسمتاً، فألبسهم الله لباس الخوف والجوع، وقلّب عليهم الديار رأساً على عقب، وأغرقهم، وأنزل عليهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
لقد امتثلتها الملائكة المقربون فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون، ونطقت بها مخلوقات عظام ضخام، إنها السموات والأرض حينما قال لها الله جل في علاه: ثم استوى" إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين 11 (فصلت).
وتفوّه بها أكرم خلق الله عليه فقال حكاية عنهم: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير 285(البقرة).
وصدّق بها أصحاب محمد ص، حينما جاءهم النهي عن شرب الخمر، التي كانت لها الولع الشديد في نفوسهم، يتحفون بها مجالسهم، ويتناشدون في وصفها الأشعار، ويعاقرونها كلما اشتهوا، وما أن نزل قوله تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون 91 (المائدة)، حتى دلق أحدهم إناء قد وصل إلى فمه، لم يرض أن يؤجل استجابته لربه ولو شربة واحدة، وقالوا بنفوس طيعة راضية: انتهينا ربنا انتهينا، وكسروا القلال وأراقوها في طرق المدينة.
ولعل مما لا يغيب عنك قصة ذلك الصحابي البطل الذي زُفَّ إلى زوجته في ليلة عرسه وعرسها، لكنه حينما سمع نداء الجهاد في سبيل الله، نهض بكل عزة وكرامة ليستجيب لنداء ربه، فتوجه إلى أرض المعركة، ليغرس قدميه فيها، إما أن يُزفَّ بعدها إلى زوجته منتصراً مظفراً، أو يزف إلى الحور العين في جنة ربه، وشاء الله تعالى أن يختاره شهيداً، أما جنابته من عرسه، فقد تكفل الله تعالى أن تغسله الملائكة الكرام، حتى رُئي أثر الغسل بعد استشهاده، وسُمي بعدها غسيل الملائكة، ذاك حنظلة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ، كل هذا الفضل، وهذا التكريم بسبب استجابته لله ورسوله ص.
فهل فكرنا أن نترجم سماعنا للخير والموعظة إلى عمل جاد، واستقامة دائمة على دين الله ؟ .