الأسرة في رمضان كالسراج تتوهج بِشرا وضياء.. لا تجتهد فقط في أداء العبادات، ولكن تجتهد أيضا على مستوى المعاملات والعلاقات الإنسانية بكافة أنواعها، وعلاقة الأبناء بعضهم ببعض تأتي في مقدمة اهتمامات كل أب وأم، يحاولون من خلالها إكساب الطفل العديد من المهارات الحياتية؛ كالمناقشة الفعالة مع إخوته، وكيفية التعبير بشكل لائق عن المشاعر السلبية عندما يشعر بها تجاه الآخرين.. فيتعلم كيفية الدفاع عن أي مبدأ يؤمن به، أو أي قضية يتبناها، أو أي عقيدة يعتقدها بطريقة سلمية، والأهم من ذلك أنه يتعلم فن التعامل مع الغير، والاختلاف مع من يحب، على أن تظل علاقة الود قائمة، فتتبلور شخصيته وتزداد ثقته بنفسه، ويؤدي به ذلك إلى المزيد من اكتساب مهارات النجاح التي تغرسها الأسرة بداخله في الشهر الكريم، وتمتد معه في مراحل عمره المختلفة.
التفاوض الناجحإلا أن الأمور لا تسير دائما بين الإخوة في هذا الاتجاه الإيجابي؛ فقد تنشأ أحيانا مشاحنات بينهم، وهو أمر طبيعي عند جميع الأطفال، وعلينا ألا ننزعج منها؛ فهي ليست شرا كلها، بل إن فيها بعض الخير، ومن خلال سلبياتها المتعددة قد نلمح بعض الإيجابيات.
أولا: يعلمهم الشجار التفاوض الناجح الذي يساعدهم في إبرام اتفاق مع الآخر، والدفاع عن النفس بمنطق رصين.
ثانيا: يكسبهم المهارات اللغوية عندما يضطرون إلى تجنب العنف اللفظي والجسدي.
ثالثا: يعودهم احترام ملكهم وملك الغير، وألا يتعدى أحدهم حدوده مع الآخر، ولا يسمح للآخر بتعدي الحدود معه.
رابعا: ينمي داخلهم مشاعر جديدة لم يكونوا يجربونها لولا أنهم يتشاجرون ويتخاصمون ثم يتحاكمون إلى الكبير ويتصالحون، فيتذوق أحدهم الشعور بالانتصار، ويعرف تقبل الهزيمة.
خامسا: يجبرهم على خوض التجربة العملية لمعنى قول الحق، ومعرفة صعوبة تنفيذ ذلك إلا إذا كانوا أقوياء مع أنفسهم، ومعرفة الشعور بالظلم والغبن إذا لم يشهدوا به، فيفهمون لماذا شدد الرسول صلى الله عليه وسلم على تجنب قول الزور.
العسل المر
وهكذا نرى أنه مع المر بعض العسل، وبالتالي ليس من المناسب أن يكون تركيز الآباء على منع الشجار بين الأبناء كلية؛ لأن هذا مستحيل عمليا، إنما ينبغي أن يركزوا اهتمامهم على تعليم الأبناء اللجوء للمناقشات المنطقية للإقناع، وعدم الاعتماد على التجريح، صحيح سيكون المنطق المستخدم به كثير من المغالطات، ولكن المهم هو عودة هذه المشاجرات للهدوء التدريجي حتى يتعلم الأبناء كيفية التعايش مع من حولهم، وفض المنازعات معهم بالطرق السلمية.
وهذه بعض الخطوات التي تجعل العلاج يسيرا، المهم أن تجرب كل أسرة أكبر عدد منها، فما يتوافق مع أبنائها تداوم عليه، وتدربهم عليه مرارا حتى تتحول المعارك إلى منبع خصب للمفاهيم والقضايا التربوية التي يحتاجونها في مراحل نموهم المختلفة.
1- بداية، لا تواجهي عزيزتي الأم الأمر بالضرب أو التوبيخ أو الانتقاد الشديد، بل لا بد من مواجهته بهدوء، فيه تفهّم ومراعاة لاحتياجات أبنائك النفسية.
2- لا تتركي فراغًا يتشاجرون فيه، لأن الفراغ يولد الصدام، فاملئي أوقاتهم بالبهجة واللعب، وادفعيهم لممارسة الأنشطة والهوايات المختلفة.
3 - إذا فاجأ أحدهم نوبة غضب وحاول العدوان على شقيقه حاولي شغله عن الحدث الذي أثار غضبه، وألهيه بشيء آخر يحبه ويسعد بممارسته.
4- كوني حازمة في نهيهم عن الشجار فور حدوثه؛ لأن استمراره قد يؤدي إلى كره أحدهم للآخر، والشخص الذي يكره يعتاد الكره وينسى الحب، فتكون المشاعر السلبية عنده أيسر وأولى.
5- ركزي في كل مرة على أن يحب الأبناء بعضهم البعض ولكنهم لا يعرفون طريقة تسوية الخلافات، واشرحي لهم أن موقف الخلاف ليس هو نهاية الدنيا.
6- علِّمي الطفل أن له الخيار في رفض الشجار عندما يدعوه الطرف الآخر لذلك بالإغاظة وغيره.
7- امنعي السخرية بصفة عامة في البيت، سواء كانت من أحد أفراد المنزل أو المدرسين أو أحد الكبار، واطلبي من أبنائك أن يعاملوا الآخرين بما يحبون أن يعاملوا به.
8- اعترفي بالخطأ أثناء تعاملك معهم، أو في تعاملك مع الأب أمامهم؛ لأن ذلك ييسر للأبناء عدم المكابرة والعناد في الباطل، وهما من أهم أسباب التناحر والتشاجر.
9- شكِّلي مجلسًا للأسرة يعبِّر فيه كل فرد عن الشكاوى بشكل صريح، ويعامل فيه الجميع بعدالة، مع وضع قواعد بسيطة مفهومة للاحتكام إليها، ولا تحيدي عن القاعدة التي وضعتموها سويًّا؛ حتى لا تضطري للقيام بدور القاضي؛ لأن ذلك يزرع بذور الغيرة، ويجعل كلاًّ منهم يسعى لإظهار أنه على حق.
10- كرِّري دائمًا أن هناك قانونًا للخلاف، وهو أن يفهم كل طرف الآخر أنه لا يحب هذا التصرف، ولا يلجأ للضرب مطلقًا كوسيلة لحل المشكلة، وإنما التفاهم أولا، ثم الامتناع عن اللعب، ثم الشكوى للأم أو الأب، وفي حالة اللجوء للعراك بالأيدي أعلميهما أن العقاب للجميع وليس لواحد فقط.
11- اغرسي بداخلهم الاستقلالية الفردية، والخصوصية، والحصول على الخبرات المنفصلة، ولا تربطي أحدهما بالآخر؛ كأن تلزمي الأكبر باصطحاب الأصغر معه للعب، بل شجِّعيهم على إيجاد اهتمامات مختلفة؛ لكي يتعلموا مواجهة المواقف دون مساعدة أحد.
12- شجِّعي أبناءك على مساعدة من حولهم وقت الحاجة، وأن يقدموا لهم مما لديهم، وذلك على حسب قدرات كل منهم، ودعِّمي هذا السلوك بلطف دون جبر أو قهر، مع مكافأة مشاعر التكافل التي تصدر من أحدهم، فهذا يؤتي ثمرته ولو بعد حين.
13- علميهم احترام الاختلاف بين الناس؛ لأن الله خلقهم مختلفين، وأنه إذا اختلف معه أخوه في الرأي فهذا حقه، لكنه ليس مجبرا على الأخذ برأيه، وأنه من المقبول أن يختلف معه، ولكن من غير المقبول أن يكرهه أو يتشاجر معه بسبب ذلك الاختلاف.
14- دعِّمي كل سلوك إيجابي يبادر به أحدهم تجاه الآخر، واجعلي دائمًا عملهم مرتبطًا برضا الله، فإذا عامل أحدهم شقيقه بطريقة رقيقة فامدحيه، وقولي له إن الله تعالى يحب هذا العمل وكتب له به حسنة.
15- كرري على أسماعهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»؛ ليعرفوا أن الضرر المتعمد ممنوع.
16- ذكري الأب بدوره الهام في معالجة هذا الأمر باعتباره يمثل (الضمير) والواضع للضوابط، واطلبي منه أن يحدثهم بأسلوب هادئ عن نعمة الأخوة، ويذكرهم بالأنشطة والأشياء الجميلة التي يتشاركون فيها، وأن يعلِّمهم القيم الإيمانية للترابط الأسري، وأنهم كالجسد الواحد، وعلى كل عضو أن يعمل لصالح الجميع؛ للحصول على الحياة المريحة.
17- وأخيرا، تسلحي بالدعاء خلال الشهر الكريم، وألا يفتر لسانك عن قوله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74]، واستعيني بالله، فإن شجارهم رغم إزعاجه ومشاكله لهو أمر سهل وميسور، تختفي حدته مع الزمن إذا تمت معالجته بتفهم وروية، واحتمال لتوابع هذا التفهم.